سياسات أوزيل الجديدة- تحول في حزب الشعب الجمهوري وتحديات في تركيا

في تحوّلٍ ملحوظ، شرع أوزغور أوزيل، الزعيم الجديد لحزب الشعب الجمهوري، وهو أكبر قوى المعارضة في تركيا، في اتخاذ خطوات ملموسة بغية تحديد الخطوط العريضة للسياسات التي سيعتمدها حزبه في المرحلة المقبلة، وذلك عقب تحقيق فوز ساحق في الانتخابات المحلية الأخيرة.
تتمثل هذه السياسة في اختلاف جذري عن النهج الذي تبناه أوزيل نفسه إبان فترة زعامة سلفه، كمال كليجدار أوغلو، لاسيما فيما يتعلق بملف العلاقات مع الدولة السورية وقضية اللاجئين والأجانب، حيث دأب قادة الحزب على المطالبة بضرورة ترحيلهم من البلاد، وإطلاق وعود للجماهير بإخلائها منهم في غضون عامين فقط في حال تحقيق الفوز في الانتخابات.
بل وتجاوز الأمر ذلك، إذ أعلنوا معارضتهم الصريحة للحكومة، معتبرين أن طريقة تعاطيها مع هذا الملف تحديدًا قد جلبت الويلات للبلاد، وأغرقتها في أزمة اقتصادية خانقة، كانت السبب الرئيسي وراء الارتفاع الجنوني في الأسعار الذي يئن منه المواطن التركي.
رئيس جديد وسياسة مختلفة
بدأ أوزيل مساره الجديد بسلسلة من التصريحات المتتالية التي كشف فيها عن رؤيته لمسألة اللاجئين السوريين والوجود الأجنبي بشكل عام في تركيا، مؤكدًا أن عودة السوريين إلى ديارهم مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتوفير مناطق آمنة وصالحة للعيش، وأنه من غير الممكن إعادتهم قسرًا قبل تحقيق ذلك.
وشدد على أنه قبل الخوض في مسألة إعادة السوريين إلى بلادهم، يجب إجراء مفاوضات جادة مع الرئيس السوري، وذلك بالتعاون مع كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، كما يجب العمل على توفير مقومات الحياة الكريمة لهم، بما في ذلك المأوى المناسب، وفرص العمل اللائقة، وتوفير الغذاء الكافي، وليس مجرد بناء هياكل خرسانية في مناطق غير مؤهلة للسكن ثم ترحيلهم إليها.
كما أعلن أوزيل رفضه القاطع للحملة الشعواء التي يشنها رؤساء بلديات حزبه ضد اللافتات المكتوبة باللغة العربية على وجه الخصوص، وكافة أشكال التمييز العنصري التي طالت تعاملاتهم مع الأجانب المنتمين إلى الدول الإسلامية عمومًا، مشيرًا إلى ضرورة إعلاء شأن اللغة العربية، باعتبارها لغة مقدسة، فهي لغة القرآن الكريم.
التحذير من تهديد السلم الاجتماعي
وأوضح أن هناك قانونًا واضحًا يحدد للعاملين في البلديات الحد الأقصى لحجم اللافتات المكتوبة باللغات الأجنبية، والذي يجب ألا يتجاوز 25 بالمائة من حجم اللافتات التركية، وهذا يعني أن هذا القانون يجب أن يطبق على جميع اللافتات المكتوبة بمختلف اللغات الأخرى، وليس العربية فقط، مضيفًا أنه إذا كانت هذه اللافتات تسهل على الناس الحصول على الخدمات فلا داعي لإزالتها.
وانتقد بشدة استخدام البعض كلمة "عربي" كشتيمة، مشيرًا إلى أن هناك ما يزيد على ستة ملايين مواطن تركي لغتهم الأم هي اللغة العربية، ويتوجب احترامهم، لأن مثل هذه التصرفات غير المسؤولة تسبب لهم أذى نفسيًا بالغًا، محذرًا من مغبة الانزلاق نحو استخدام خطاب تمييزي ضد العرب، لما لذلك من انعكاسات سلبية وخيمة على الأتراك ذوي الأصول العربية، وهو ما يمثل تهديدًا حقيقيًا للسلم المجتمعي.
هذا التغيير الجذري الذي أعلنه أوزيل في طريقة تعاطيه مع قضية اللاجئين، أثار موجة عارمة من الغضب والاستياء داخل صفوف حزب الشعب الجمهوري، وبين قطاعات واسعة من العلمانيين والكماليين الرافضين بشدة لوجود السوريين والعرب عمومًا داخل تركيا، والذين اعتبروا أن هذا التوجه يمثل خروجًا صريحًا عن نهج أتاتورك، وتخليًا عن مبادئه.
صدمة الأحزاب القومية واليسارية
أما المفاجأة المدوية التي أذهلت الأوساط السياسية والحزبية ذات التوجه القومي، فكانت مبادرته بالانفتاح المباشر على رئيسي حزبي الائتلاف الحاكم، الرئيس أردوغان، ودولت بهجلي، ورغبته الصادقة في فتح حوار بناء وعقلاني معهما بشأن السياسات الحكومية، وكيفية التعامل مع العديد من الملفات الحساسة المرتبطة بالأمن القومي، والاقتصاد المتدهور، والسياسة الخارجية المضطربة، بالإضافة إلى مسألة إعداد دستور جديد للبلاد.
وقد أعرب ممثلو أحزاب الجيد، والنصر، وحزب الديمقراطية والتقدم، عن خيبة أملهم العميقة إزاء سعي رئيس حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة التركية، لإقامة حوار ودي ومباشر مع كل من أردوغان وبهجلي، بل إن كمال كليجدار أوغلو، الرئيس السابق للحزب، وجه تصريحًا لاذعًا اللهجة لأوزيل، قائلًا: "إن القصر الرئاسي يجب أن يُحارب بكل قوة، لا أن يتم التفاوض معه بتلك الطريقة المستسلمة."
وفي سياق متصل، علق أحد الصحفيين المقربين من المعارضة التركية في منشور له على منصة "إكس" في محاولة لتفسير هذه التغيرات المفاجئة في مواقف أوزيل، قائلًا: "حينما توجه أوزغور أوزيل إلى مقر حزب العدالة والتنمية، شعرت للحظة أنه قد تم اختطافه واستبداله بنسخة أخرى طبق الأصل منه، لأن أوزيل الذي دخل المقر كان شخصًا، والذي خرج كان شخصًا آخر تمامًا."
اختلاف النهج السياسي وأهدافه
وفي المقابل، طالب بعض الأعضاء الغاضبين في الحزب، وخاصة من الحرس القديم، بضرورة أن يعيد رئيس الحزب النظر في مواقفه، وأن يدرس بعمق سياساته الجديدة التي أصبحت أقرب ما تكون إلى سياسات الحزب الحاكم، وأبعد ما تكون عن أفكار الحزب العريقة ونهجه الثابت في التعامل مع الحكومة.
قد يظن البعض أن المسار الذي اختاره أوزغور أوزيل لنفسه، والذي ينطوي على تغيير جذري لنهج سلفه، هو مجرد رد فعل مؤقت ناتج عن الشعور الغامر بنشوة الانتصار الكبير الذي حققه الحزب في الانتخابات المحلية تحت قيادته، وأن الرجل سرعان ما سيتراجع عن هذه المواقف بعد فترة وجيزة من الزمن، نتيجة للضغوط الهائلة التي تمارس عليه من كل حدب وصوب.
إلا أن الحقيقة التي يغض الطرف عنها الكثيرون، هي أن أوزيل، من خلال تبني هذه السياسات الجديدة، يسعى جاهدًا إلى التأكيد على عدة أمور جوهرية يبدو أنها غابت عن أذهان منتقديه، ومن أبرزها:
1 – أن حقبة كليجدار أوغلو وسياساته العدائية قد ولت إلى غير رجعة، وأن الحزب يخطو خطوات واثقة نحو مستقبل جديد، ببوصلة جديدة وتوجهات مختلفة تمامًا عما كان سائدًا في الماضي.
2 – أن الحزب قد أصبح له قائد جديد يضع بنفسه سياساته، ويحدد مساراته، ويتخذ قراراته الحاسمة بالتوافق مع الهيئة العليا للحزب، بما يصب في مصلحة البلاد والعباد، وأنه كرئيس للحزب لا يتلقى أوامر من أحد، ولا يتم توجيهه من قبل أي فصيل، سواء داخل الحزب أو من خارجه.
3 – أنه يريد أن يوجه رسالة مباشرة وحاسمة إلى الكيانات والمجموعات المتصارعة داخل الحزب، والتي باتت تهدد وحدته وتعمل على تشتيت صفوفه، مفادها أن لديه القدرة الكاملة على تصحيح المسار، وتوجيه دفة سياسة الحزب نحو تحقيق الغايات النبيلة التي يتطلع إليها مؤيدوه وقاعدته الشعبية العريضة، وليس لتحقيق مصالح شخصية ضيقة وأهداف خفية لأفراد نافذين داخل الحزب، يقودون حربًا إعلامية ضارية ضده وضد رؤاه الإصلاحية.
4 – أن الرجل قد عقد العزم على الابتعاد عن الخلافات السياسية العتيقة، والشروع في مرحلة جديدة قوامها الاحترام المتبادل بين حزبه والقصر الرئاسي، وذلك بغية تعزيز مكانة المنصب الرئاسي، ووضعه في مكانته الرفيعة التي يستحقها، لهدفين أساسيين على ما يبدو؛ أولهما يتمثل في تقديم حزبه للناخبين كبديل سياسي قوي ومحترم يدرك تمامًا أهمية الرئاسة، ويعي جسامة المسؤوليات الملقاة على عاتقها.
أما الهدف الثاني، فهو التصدي الحازم لمحاولات أكرم إمام أوغلو الدؤوبة، الذي يسعى بكل ما أوتي من قوة لفرض نفسه، منذ فوزه بمنصب رئيس بلدية إسطنبول لولاية ثانية، كالمرشح الأوحد للحزب لخوض غمار السباق الرئاسي المحتدم في الانتخابات المقررة في عام 2028، وهو يتبع في سبيل تحقيق هذا المسعى الخبيث نفس النهج الشعبوي الذي تبناه رئيس الحزب السابق كليجدار أوغلو، حيث لا يزال يشن حملات تحريضية ضد اللاجئين، ويعلن الحرب الضروس على اللافتات المكتوبة باللغة العربية، بل ويسعى بكل ما أمكنه من وسائل للإساءة إلى شخص الرئيس وتقويض صورته أمام الرأي العام.
ولعل أوزيل، من خلال تبني هذه السياسات الحكيمة، وعزمه الصادق على التوفيق بين توجهات حزبه وتطلعات الرأي العام التركي برمته، وليس فقط شريحة ضيقة من العلمانيين والقوميين المتشددين، يهيئ الأجواء المناسبة لطرح اسمه هو شخصيًا لخوض السباق الرئاسي المرتقب، خاصة بعد أن تفاقمت الخلافات بينه وبين أكرم إمام أوغلو بصورة ملحوظة، مما دفعه إلى الإعلان صراحة بأن تحديد اسم المرشح الذي سيدفع به الحزب لخوض معركة الرئاسة لم يحسم بعد.
